إدارة الأعمال
الطـــــريق إلى الحكمــــــة
الإدارة. علــــم أم فن؟
قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعرف أولا ماهو العلم وما هو الفن وماهو الفرق بينهما.
توحى النظرة الأولى إلى العلم بأسسه الابستمولوجية وفروعه المختلفة من ناحية، ثم إلى الفن بأشكاله ومجالاته المتعددة من ناحية أخرى ، بأن هناك تمايزا واضحا وفرقا أكيدا. فالعلم معرفة جلية لها ثبات وشمول بينما الفن يحقق ومضات رؤية خاطفة قد تخترق أبعد مما يحققه السير الأبطأ للعلم وبصور أكثر ابهارا.
أشعر بأنك بدأت فى الفزع وربما بدأت فى تحريك الماوس الآن إلى المربع الأحمر ذو العلامة البيضاء أعلى يمين الصفحة وأنت تلعن الحظ التعس الذى أتى بك إلى هنا. ولكن انتظر، ماهذا إلا مثال على ما ستقرأه إذا ما حاولت التعمق فى البحث عن إجابة هذا السؤال. فهذا السؤال ليس حصريا على علم الإدارة ولكنه سؤال فلسفى تتناوله جميع العلوم حتى العلوم الدينية، بل أكثر من ذلك فهو سؤال فلسفى تتناوله علوم الفلسفة.
لماذا أخبرك بذلك فى البداية؟ أخبرك لسببين أساسيين:
أولا: حتى لا تعتقد أن سبب وجود هذا السؤال فى جميع كتب الإدارة هو الشك فى طبيعة علم الإدارة وفائدته.
ثانيا: حتى لا تنشغل بمحاولة البحث عن إجابة محددة لهذا السؤال، مخدوعا بتكراره معتقدا بذلك أهميته.
دعنا الآن عزيزى القارئ نعود مرة أخرى إلى السؤال السابق ماهو العلم؟ وماهو الفن؟ وما الفرق بينهما؟
كلمة العلم تعنى: إدراك الشئ على حقيقته بشكل جازم، وعكسه الجهل.
من تعريف الكلمة نجد أن المتخصصين يتفقون على تعريف العلم بأنه: "مجموعة من المعارف المرتبطة التي تعتمد في تحصيلها على المنهج علمي دون سواه".
أما الفن : فهو عمل ينتج عن المهارة الإبداعية والتخيل عند الإنسان.
مامعنى هذا الكلام؟ هذا الكلام يعنى أن العلم يستند على تطبيق المنهج العلمى فى التفكير والتجارب لوضع نظريات تحدد حقيقة الأشياء بشكل جازم وعلى وجه الدقة. أما الفن، فهو ناتج عن إبداع كل شخص على حدة وقدرته على التخيل والابتكار
فالفن إذا عمل يختلف من شخص إلى آخر، بينما العلم أمر ثابت لا تختلف نتيجته باختلاف الشخص الذى يقوم به.
فمثلا عندما تأتى بشخص ليقوم ببناء منزل لك فأنت تتوقع منه أن يقوم بحفر الأرض ووضع الأساسات واستخدام الرمل والطوب والأسمنت واستخدام قواعد البناء الهندسية لضمان قوة تحمل المبنى ... الخ. ولن يختلف كل ذلك باختلاف الشخص الذى سيقوم به. ولكن عندما تأتى بشخص ليؤلف مقطوعة موسيقية فأنت لا تعرف على وجه التحديد ماهى الموسيقى التى ستسمعها منه وسيختلف ناتج العمل تماما باختلاف الشخص، بل سيختلف باختلاف الحالة النفسية والظروف المحيطة بالشخص نفسه.
والآن دعنا نطبق هذا الكلام على علم إدارة. إذا استأجرت شخصاً ليدير لك شركتك فربما لا تعرف على وجه التحديد نتيجة العمل الذى سيقوم به، ولكنك تعلم أن نتيجته لا تتجاوز أحد أمرين إما تحقيق أرباح للشركة أو تحقيق خسائر. ولكن هناك أيضا درجات لا نهائية من كلا الأمرين، وستختلف النتيجة باختلاف الشخص الذى يقوم بها.
ولكن فى نفس الوقت أنت تطلب منه القيام بمهام معينة وتتوقع منه القيام بها وتتوقع منه نتيجة محددة أيضا. على سبيل المثال عندما تقوم بتعيين مديرا جديدا لإدارة الموارد البشرية، تتوقع منه أن يقدم لك تقاريرا واضحة ومحددة لعدد العاملين بالشركة، والأعمال التى يقومون بها، والأجور التى يتقاضونها، والاحتفاظ بسجلات محددة لكل منهم، وانهاء الأعمال المتعلقة بالجهات الخارجية مثل التأمينات وغيرها، ولا تتوقع اختلاف نتيجة ذلك باختلاف من يقوم بها. بل إذا لم يقوم بها المدير الجديد بالطريقة الصحيحة فستأتى بشخص غيره. بنفس الطريقة هناك قواعد ودقيقة يستند عليها مدير المخازن ومدير الإنتاج ومدير الحسابات والمدير المالى سواء هندسية أو حسابية.
كما يبدو فإن الوضع معقدا ومتداخلا واجابة هذا السؤال ليست بالأمر الهين. ولكن حتى لا أنتهى بك إلى النهاية التقليدية وهى أن الإدارة خليط من هذا وذاك، دعنا نتخذ مدخلا جديدا لمناقشة الأمر، ونسأل سؤالا هاما. هل هذا الوضع حصريا وقاصراعلى علم الإدارة فقط؟
فى الواقع ليس الأمر قاصرا على علوم الإدارة فقط ولكن جميع العلوم على وجه الأرض كذلك. فإذا كانت نتائج العلوم دائما واحدة ومتطابقة ولا تختلف باختلاف الشخص الذى يقوم بها كيف كان سيحدث التطور الذى نراه فى العالم؟ كيف مثلا كانت ستختلف المبانى هذا الاختلاف الهائل فى انحاء الأرض لو لم تكن الهندسة فن، على الرغم من أن المؤكد أنها علم. كيف يظهر المبدعون فى مجالات الكمياء والفزياء والهندسة والطب كل يوم لو لم تختلف النتائج باختلاف الأشخاص.
إذن لماذا هذه الضجة على علم الإدارة بالتحديد؟
لأن علم الإدارة به مساحة أكبر للإبداع من بقية العلوم الأخرى. ولتوضيح الأمر انظر معى إلى الشكل التالى:
تقع جميع العلوم على هذا الخط بين العلم والفن، فليس هناك علم مطلق ولا فن مطلق، ولكن مزيج من هذا وذاك. ففى كل المجالات هناك مساحة للعلم والحقائق الثابتة التى يستند عليها حتى لا يفسد العمل برمته، وهناك مساحة للإبداع تختلف باختلاف الشخص الذى يقوم بالعمل حتى يحدث التميز والإبتكار والتفوق فى كل مجال. وتختلف هذه النسب من مجال إلى آخر، فقد تزيد فى أحد المجالات نسبة العلم على نسبة الفن فيتحرك على الخط إلى اليمين مثل علوم الكيمياء والفزياء والهندسة والطب، وقد تزيد فى مجال آخر نسبة الفن على نسبة العلم فيتحرك على الخط إلى اليسار حتى يصل إلى الرسم والشعر والموسيقى. وليس هناك بالطبع علم مطلق وإلا أصبح جامدا لا جديد فيه، يقول الله تعالى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". وليس هناك فن مطلق بلا قواعد أو حدود وإلا أصبح مجرد حالة من الفوضى.
وبالنسبة لعلم الإدارة فإنه فى أغلب الأمر يقع فى منطقة وسطى على المسافة بين العلم والفن. حيث مساحة الفن والإبداع المتاحة كبيرة، مما يسمح باختلاف طريقة آداء العمل ونتائجه باختلاف الشخص الذى يقوم به. ولكن فى نفس الوقت تحكمه قواعد وأسس وأطر تحدده وتحكم العمل به وتقلل نسبة واحتمالات الخطأ.
ولكن لماذا تزيد نسبة الفن فى علم الإدارة عن بقية العلوم الأخرى مثل الهندسة والفزياء وغيرها من العلوم الطبيعية؟ يرجع ذلك إلى سببين رئيسيين:
السبب الأول: هو أن علم الإدارة يتعامل فى الأساس مع الإنسان، وأحد أبسط تعريفات الإدارة هو: أداء الأعمال عن طريق الآخرين. وفى الوقت الذى تتعامل فيه بقية العلوم مع أشياء جامدة لا تتغير ولا تتأثر بالظروف المحيطة بدرجة كبيرة، نجد علم الإدارة يتعامل مع الإنسان الذى تختلف ردود أفعاله اختلافا هائلا باختلاف الظروف المحيطة به، والبيئة الى نشأ فيها، والتعليم الذى حصل عليه .....الخ. فمثلا الماء يغلى عند درجة حرارة معينة وهذه الدرجة لا تتغير بتغير المكان أو الزمان، ولكن العامل الذى يقبل العمل بأجر معين اليوم قد لا يقبل بأقل من ثلاثة أضعاف هذا المبلغ فى الغد. والمستهلك الذى يشترى سلعتك اليوم ربما يرفض شرائها غدا وبدون أى أسباب منطقية.
السبب الثانى: هو أن رجل الإدارة تتأثر نتائج عمله بعدد لا نهائى من المتغيرات، الاقتصادية، والتكنولوجية، والسياسية، والسيكولوجية.... الخ. وهو الأمر الذى تعجز أعظم أجهزة الحاسب فى العالم على التعامل معه. مما يفتح المجال لإبداعه وخبرته وحكمه الشخصى وقدرته على التحليل والتوقع لمحاولة تحقيق أفضل النتائج الممكنة.
باختصار، هل الإدارة علم أم فن؟ الإدارة هى مزيج متكامل من العلم والفن. ونسـتطيع القول بأنها علم مساحة الإبداع فيه أكثر من بقية العلوم الأخرى، وفن مساحة العلم فيه أكبر من بقية الفنون الأخرى. بمعنى أنك إذا حاولت ممارسة الإدارة بدون أن تتعلم قواعدها وأصولها سترتكب أخطاءاً فادحة وستفشل لا محالة، وإذا حاولت ممارستها عن طريق تطبيق القواعد العلمية فقط بدون استخدام الإبداع والخبرة والمهارات الشخصية فستفشل لا محالة ولن تستطيع تحقيق أى تقدم يذكر.